دراسات إسلامية

 

 

 

 

صلاح الدين الأيّوبي والحروب الصليبية

 

 

 

بقلم : الدكتور حسن محمد باجودة

 

     الحقد الصليبي على الإسلام والمسلمين ، كان له أكثر من سبب وأكثر من هدف ، فالمسلمون الذين كانوا حفنة أعراب أجلاف محصورين في صحراء الحجاز ، جاءهم الإسلام وفتّق في نفوسهم بذرةً اسمُها الجهاد والفتح الإسلامي . فامتدت دولتهم من أقاصى الصين وروسيا إلى مجاهل أفريقيا وأوربا ؛ فأصبح بيت المقدس في بطن دولتهم ، وسنابك خيلهم تطرق أبواب وحصون القسطنطينية حاضرتهم . كما كان لاستعانة بعض أمراء وسلاطين الدويلات الإسلامية بهم ضد السلاجقة الأتراك المسلمين ؛ بل وضد صلاح الدين الأيوبي أحيانًا ، الدور الكبير في أن يطمعوا في المسلمين .

     أولُ من دعا للحروب الصليبية هو الراهب الفرنسي بطرس الناسك والذي دعمه بابا روما حيث عقد مجمع (كليرمون) في فرنسا وهو الذي قررت فيه الحروب الصليبية ، وقرروا الانطلاق من مدينة القسطنطينية ، وكانت أول حملة عام 486هـ حيث شتَّتها السلطان السلجوقي قليج أرسلان ؛ لكنهم عادوا مرة أخرى بتدبير وتمويل الإقطاعيين والأمراء ، وقابلهم السلطان قليج أرسلان ودارت معهم معارك طاحنة استطاعوا فيها أن يستولوا على أنطاكية ومنها احتلوا بيت المقدس ، وفي بيت المقدس أقام الصليبيون للمسلمين مجزرة لم يشهد أحد لها مثيلاً في ذلك التاريخ ، ثم أسسوا إمارات على ساحل البحر الأبيض من الإسكندرية حتى عسقلان .

     وكان سرُّ انتصار الصليبيين هو تفرق المسلمين وتقاتل أمرائهم وملوكهم ، فبين الإخوة السلاجقة قتال ، وبين ملوك الشام قتال وتنازع على السلطة ، وبين بقيــة الـدول الإسلاميــة قتـال وخصام واستعانة بالصليبيين لتفتّت وحدة المسلمين . وللمرة الثالثة استغلّ الصليبيون تفتّتَ وحدة المسلمين وجردوا حملة بقيادة لويس الرابع عشر ملك فرنسا وكونراد الثالث إمبراطور ألمانيا ، وحاولوا في تلك الحملـة فتح دمشق التي كان وإليها نــورالدين محمود ؛ لكن نور الدين واجههم مما جعلهم يرجعون مدحورين .

معركة حطين

     كما بينّا فإن للصليبيين في شن الهجوم على المسلمين وبعد أن قويت الدولة الإسلامية الأيوبية الواحدة ، فإن أسباب صلاح الدين لقتال وطرد الصليبيين قد نضجت وقويت . وقد كان ينتظر سببًا مباشرًا ، فوجده حينما اعتدى الملك أرناط أمير إمارة (الكرك) على قافلة تجارية لصلاح الدين وأسر رجاله وسفّه الإسلام والمسلمين ورسول المسلمين () . علم صلاح الدين بسبّ أرناط الصليبي لرسول الله () . فغضب غضبًا شديدًا ، أقسم معه على قتله إن ظفر به حيًّا ... وقد فعل . من هنا انطلق صلاح الدين سيفًا مسلولاً لله والإسلام ، حتى فتح بيتَ المقدس وسقى الصليبيين كأسا مرًّا مزاجه الجهاد الإسلامي الحق .

     جمع جيشه وأعدّ جنده وعتاده ويمّم شطر بيت المقدس ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال ومعراج المصطفى () ، وكان صلاح الدين يؤرقه استفحال أمر الصليبيين في القدس الشريف ، حتى أنه كان مهتمًّا غاية الاهتمام بهذا الأمر إلى درجة ملأت عليه كل حياته . خرج صلاح الدين في جيشه من دمشق وسار إلى (البصرة) ثم إلى حصن الكرك والشوبك حيث فتحها وعاد إلى (طبريه).

     هنا علم الصليبيون بما أعدّه صلاح الدين لهم فجمعوا جيوشهم وأعدّوا عدّتهم ثم توجّهوا إلى طبرية أيضًا وفي مكان اسمه «حطين» تقابل الجيشان وكان الجو حارًّا ، وقد سبق صلاح الدين الصليبيين في احتلال مواقع الماء ، وكرّ عليهم صلاح الدين كرةّ رجلٍ واحد بجيشه تساعدهم حرارة الشمس والعطش الذي أصاب الصليبيين ، فتشتَّت شملهم وأعمل فيهم السيف تقتيلاً حتى بلغ عدد قتلاهم عشرة آلاف و فرّ فرسانهم وجنودهم إلى تلال حطين فأصابتهم هزيمة نكراء ، أسر على أسرها ملك بيت المقدس وأرناط أمير الكرك موقد الشرارة. ولم ينس صلاح الدين قسمه بقتل أرناط فقتله بيده جزاء له على تعدّيه على الرسول الكريم () .

     ثم توجه صلاح الدين إلى «عكا» فحاصرها وفتحها ثم سقطت الإمارات الصليبية الواحدة تلو الأخرى : صيدا ، الجبيل ، بيروت ، عسقلان . وبقي بيت المقدس فتوجه إليه الناصر لدين الله صلاح الدين الأيوبي وحاصرها حصارًا قويًّا بعد أن احتل حولها بيت لحم ، غزة ، النطرون ولم يشأ صلاح الدين أن يفتح بيت المقدس عنوة ؛ بل فضل أن يعيد سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي فتحها صلحًا . لذلك أرسل للصليبيين يعرض الصلح على أساس أن يسمح لهم بالخروج منها بشرط فداء أنفسهم بالمال ، وبعد أسبوع استسلمت القدس وتمّ تنفيذ الاتفاق وشروط الصلح ، وأخذ الصليبيون يخرجون من القدس بعد أن فَدَوا أنفسهم.

     كان أول يوم لخروج الصليبيين هو يوم الجمعة يوم الإسراء حيث أقام صلاح الدين صلاة الجمعة بعد أن ظلّت غائبـــة عن المسجد الأقصى زمنًا طويلاً وهكذا تنفّس المسلمون الصعداء وتطهّر البيت المقــدس ، بيت الله المسجــد الأقصى من دنس الصليبية الحاقدة . وفي هذا عامل معنوي لتوحيد الأمة .

     ولم يَنَم الصليبيون بل جهَّزوا جيوشَهم في أوربا وعادت الحملة الصليبية الثالثة والتي شارك فيها إمبراطور ألمانيا «فردريك» وملك فرنسا «فيليب اغسطس» وملك إنجلترا «ريتشارد قلب الأسد» وحاصروا مدينة عكا ، وحاول صلاح الدين أن يحاصر الصليبيين من الخارج ؛ لكن المدد كان يصلهم تباعاً من أوربا ، ودارت المعارك سجالاً استطاع فيها الصليبيون أن يجبروا أهل عكا على الاستسلام وقبول الصلح (صلح الرملة) ، ثم عاثوا فيها مفسدين وقتلوا ونكلوا بالناس من المسلمين ونسوا ما لقوه من معاملة كريمة عقب معركة «حطين» التي انتصر فيها صلاح الدين ، وإلى هنا تراجع الصليبيون ولم يتقدّموا بعد «عكا» ورجع ملوكهم إلى بلادهم .

     وفي عام 589هـ أسلم صلاح الدين الأيوبي الروح إلى بارئها مُسَجِّلاً في التاريخ صفحاتٍ بيضاءَ عن معاني الوحدة الإسلامية ودورها في تحقيق غايات الأمة المسلمة ورسالتها – رحمه الله – وأجزل له المثوبة .

     إن ماقام به السلطان صلاح الدين الأيوبي من إرساء دعائم الوحدة الإسلامية للبلاد الإسلامية التي كانت نهباً مُقَسَّمًا لشهوات وهفوات الأمراء المسلمين ، كان هو العامل السياسي الأساسي الذي أدى إلى تحرير الأرض المقدسة بعد أن كانت تحكم من قبل الصليبيين نحو قرن من الزمان ، وإذا كانت الأمة الإسلامية تعانى اليوم الفرقة والشتات والانقسام فإن في دروس دولة صلاح الدين الأيوبي عليه رضوان الله زادًا للأمة كى تصل إلى ما تصبو إليه من غايات ، وفي هذا الإطار نود أن نؤكد على الحقائق التالية استنادًا على الحركة السياسية في الدول الأيوبية .

     (أ) كان منهج الحركة وفقهها السياسي الإسلامي هو الأسوة الحسنة للسلف الصالح في حروبهم وسلمهم في عدلهم وقضائهم وصلحهم وفتحهم ، وكان توجهها هو تجديد النية الخالصة لله سبحانه وتعالى نصرة دينه الحق ؛ فقد كان صلاح الدين الأيوبي يقتدى بهذه الأسوة الحسنة تكرارًا وتجديدًا للدين في تلك المئة من السنين .

     (ب) الوحدة الإسلامية كانت الهدف المنشود في حركة صلاح الدين الأيوبي ، ولم يدَّخر وسعًا في اتّباع كل الوسائل الممكنة لتحقيقها ؛ فكان موقفه من الإمارات التي يقوم عليها مسلم أن يعرض الصلح والدخول في مظلة الدولة الإسلامية الواحدة حتى إذا ما رفض هذا الأمير أو ذاك أنذره ثم قاتله حتى يكون الدين لله جميعًا وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى . (الطريق إلى الوحدة الإسلامية ، رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة) .

*  *  *

*  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالقعدة 1426هـ = ديسمبر 2005م ، العـدد : 11 ، السنـة : 29.